خاطرة ٢ بقلم الدكتور محمد قدري دلال. صرنا كل مين بديرة
Updated: Mar 13, 2022
خاطرة:
من أساسيات فلسفة الفنون : أن يكون العمل الفني معبراً بصدق عن معاناة شخصية كحد أدنى ، أو جماعية في مستواها الأرقى، فهو لا يعد فناً إن لم تعانقه بكلتا يديها، أو أن يكون مستمداً طاقته الإبداعية من تلك المعاناة. والأصالة غاية المبدعين من الفنانين الجادين: المجددون مهم والتراثيون، إذ لا يكون العمل الفني أصيلاً ـ إن لم يُستمد ـ تراكمياً وسيرورة ـ من تراث الجماعة أو الوطن أو المنطقة، فلذلك يعمد الأذكياء من المبدعين إلى مغازلة تراثهم: استلهاماً طوراً و محاكاة طوراً آخر، وقد يكون كذلك استعارة أو امتداداً لعمل خالد سواءً "عالِماً أو شعبياً" (كلاسيك أو فولكلور)، وإلباسه وشاح عصرهم، كي يُضحي الوقع أعظم والتأثير أكبر.
وباستعراض الأعمال الخالدة تلاحظ ذلك التلاقح بين الطارف والتليد، والقديم والحديث؛ فكم من حكاية قديمة صيغت بقلم حداثيٍّ فأضحت أيقونة، وكم من لحن تراثي صِيغ بمخيلة إبداعية متطورة فأصبح قلادة معاصرة، تزين عنق الحاضر، تتماهى مع روح العصر، وترمق المستقبل بعين التحدي!
بين يدي عمل فني موسيقي فذ، ائتلفت فيه عناصر التفرد والتمرد، وغلفه ذكاء النص والمعالجة اللحنية الفطنة، وبديهة إبداعية عرفت عن صانعه، فتاه في خيلاء بين الأعمال الحاضرة، وزها بألق شفاف بين نظرائه.. إنه العمل الذي نشر مؤخراً للأخ الراقي مهندس الروائع وسادن التحف اللحنية أستاذنا القدير ـ صوتاً ولحناً وعلماً ـ نهاد نجّار (أبو نذير). والذي غناه بروعة فائقة، وبعذوبة صوت نادرة، وبإحساس تفوق فيه على نفسه .. الأستاذ الكبير (يوسف شمعون). كيف لا ؟ وكلماته تمس شغاف قلوب السوريين جميعاً، من هو داخل الوطن الغالي أو المهجّر، أوالمهاجر والمغترب لأي سبب؟؟
أُسْتهل العمل بلحن مؤثر تعزفه آلة " الدودوك" ذات الصوت الدافئ، والعمق النفّاذ، ومنه إلى لحن من أعماق تراث حلب، ومن أحد ألحان "سيمفونيته" (اِسق العطاشى):
يا غزالي كيف عني أبعدوك شتتوا شملي وهجري عوّدوكْ
تهادى اللحن وئيداً، يحاكي عناء مشي المغادر للوطن، تتقلع قدماه كجذر شجرة تُجْتث من تربة موطنه الأثير الأليف، ينتقل بعدها للتراث الشعبي ، وبأسلوب الموال الحلبي العريق وعلى مقام "الحجاز" الرقيق، موضحاً تلك المعاناة: "من حرقة القلب عم نحكي اسمعوا" "وحسّوا فينا وشوفوا وأشعوا" "صار حال كل الناس هم وأسى" إلى "واتغربوا وتعبوا وتألموا وتوجعوا" وأن جزءاً لا يستهان به من قاطني الحبيبة سورية أضحى في صقع من أصقاع الكرة الأرضية، يجمعهم الحنين إلى مرابع الصبا، والتشوق لأحجار شوارع أحيائها القديمة، وواجهات بيوتاتها الأنيقة، وشوارعها فائقة الجمال، والشجن لفراق الأحباء والخلان.
ينتقل بنا الملحن إلى لحن مألوف لكلمات تقطر وفاءً وتشوقاً: "يا أغلى الحبايب .. ما رحتوا وغبتوا لحظة من بالي" "عم فكر فيكن طول الليالي" "من شوقي أنا شقشقت التوبا"وهو المذهب الذي يردده "الكورال".. فلازمة آلية رشيقة بسيطة للانتقال إلى الغصن الثاني، وهو لحن جميل على الدرجة الخامسة، يصعد بعدها صوت المطرب صداحاً إلى الجواب، فهبوط إلى قرار المقام. إلى مفردة لحنية تعيدك إلى مفهوم "الشدية" ولمن لا يعرفها: هي مفردات نغمية تبادلية بين المعدد والمجموعة الصوتية المرافقة، ومنها إلى جملة لحنية لطيفة بسيطة "ياربي تصبر ها الناس ـ اللي داقوا مر الكاس" ، وهنا تأتي القفلة الذكية التي أراد بها الملحن الإياب إلى تراثنا العريق، والتواصل مع ما بدأ اللحن به (إسقِ العطاشى)، لينهي هذا العمل الفني الأنيق بوصفه حال الجميع الممتنع عن الوصف "حالي حالي حال !! مالي مالي مال".
وينهايتها تُغلق حالة وجدانية من الوجد والشوق، والمعاناة والألم التي أرادها رسامها ومصممها، وساقها وضاءة في مشاعرها، لمّاعة بأحاسيسها، وجاء صوت الأستاذ يوسف براقاً مجلجلاً برقة وحنان، لتصلنا الصورة لؤلؤةً في أرقى تصميم كما أراد لها صائغها أن تكون.
الإسكندرية في 2/7/2021
Comments